أمومة فى برد المراكب النيلية  

Posted by: هبة العفيفي

كتبت هبة  للمصرى اليوم بتاريخ ٢٠/ ٣/ ٢٠٠٩


«الأمان» هو أبسط حلم تتمناه النساء هنا فى النيل تحت كوبرى قصر النيل، فى مقابلة التحرير. هذا المكان فقدن فيه أقل حقوقهن الآدمية ونسين كونهن إناثًا.. كل ما يربطهن بعالمنا هو هذا الحبل، الذى يوصل قواربهن بالأرض حيث عالم آخر، لا يعرفن عنه شيئًا سوى أنه فقط يأتى لهن بالمال اللازم للحياة وأقل متطلباتهن من الطعام والشراب. فى هذا القارب الضيق فى عرض النيل تكمن حياتهن، حيث الصيد، والصيد فقط لاغير.


«إحنا هنا منفيين ما نعرفش أى حاجة فى الدنيا.. معندناش تليفزيون ولا بنقرا جرايد، بنصحا من الفجر عشان نصطاد، ونرجع نطلع لعالمكم اللى فوق ده عشان نبيع شوية السمك بتوع النهارده عشان نجيب أكل وشرب ونرجع من تانى نصطاد»..
هكذا بدأت الست فاطمة كلامها، حيث وصفت مكان سكناها بأنه مركبة صغيرة متغطية بقطع بلاستيك عايشين واكلين شاربين نايمين فيه، ثم تعاود حديثها لتقول: «أنا نسيت إنى ست، بقالى ٢٥ سنة عايشة هنا، وأنا أصلا من دمياط، طلعت لقيت أهلى كلهم بيشتغلوا فى الصيد، ما نعرفش نقرا ولا نكتب.. اتجوزت فى المركبة دى وخلفت عيالى الستة هنا من غير دكتور ولا داية، وكلهم الحمد لله عايشين..
أول ما الفجر يشقشق باطلع مع جوزى نصطاد.. أنا باجدّف وهوّ بيصطاد ويرجع يرتاح وأنا أطلع أبيع السمك وأشترى لهم الأكل والشاى والسجاير وأرجع، عندى٣ بنات و٣ ولاد. كلهم علمتهم الحمد لله وبيعرفوا يقروا ويكتبوا بس برضه كلهم بيشتغلوا معانا، محدش اشتغل بره، وعندنا بيت فى دمياط بس ده للناس الكبيرة اللى مابقيتش تقدر تشتغل، بيروحوا يقعدوا هناك لحد أجل ربنا ما ييجى.
الأمومه دى ماتعلّمتهاش، أنا لقيت نفسى خلّفت وباربّيهم زى أهلى ماربّونى، ماتعبتش فى تربيتهم لأن إحنا أصلا مش بنختلط بأى حد.. من النيل وللنيل.. عايشين فيه وهنموت برضه فيه.


أكتر حاجة بتحزّ فيه إنى ماليش باب يتقفل علىَّ بالليل وإنى ماعرفتش أوفر لولادى حياة كويسة زى باقى الناس، حياتنا مفتوحة لأى حد، أبقى قاعدة باغسل وألاقى ألف عين بتبص علىَّ من فوق الكوبرى ده، بنشرب من مية النيل ونستحمّى فيه، وعمرى ما دوقت المية المعدنية اللى بيقولوا عليها، ده حتى ساعات كتير بتعدّى علىَّ الأيام مش باعرف النهارده إيه.


ووسط دموعها قالت: عيد الأم ده بيفكرنى بأمى الله يرحمها، اتعلمت منها إزاى ماأمدّش إيدى لحد، وإنى أشقى وأتعب عشان أجيب فلوس، وأنا علّمت بناتى وولادى الشقا، تفتكرى كده أنا أبقى أم كويسة؟! كل ماأشوف بناتى أحزن عليهم وإن حظهم زيى اتجوزوا وقعدوا فى مركب هنا جنبى.. كلنا بنكره البوليس اللى كل شوية يطب علينا ونهرب منه ونسرح فى النيل الواسع، ولما يمشوا نرجع هنا على البر تانى.


أما زينب، بنت الست فاطمة فعمرها لم يتجاوز الحادية والعشرين، عندما تراها تشعر بأنك ترى امرأة فى الستين من عمرها من تجاعيد وجهها الصغير.. تقول: ياما حلمت إنى أسيب البحر وقرفه وسقعته، بس هاعمل إيه، دى دايرة علينا، خايفة إنى أفضل فى البحر طول حياتى زى أبويا وأمى وماخرجش إلا بعد ما أموت منه.
حياة البحر بتعمل عزلة، إنتى مابتشوفيش حاجة غير السمك، وده ما بيخلّيكيش تفكرى فى أى حاجة أو تدرى بأى حاجة بتحصل حواليكى، من سنتين اشتريت جرنان، نفسى أشتغل وأريّح أبويا وأمى ونسكن فى شقة، ونترحم من السقعة ومن نظرة الناس لينا».


This entry was posted on الأربعاء, فبراير 03, 2010 . You can leave a response and follow any responses to this entry through the الاشتراك في: تعليقات الرسالة (Atom) .

0 التعليقات

إرسال تعليق